في عالم تتسارع فيه المعرفة وتتقاطع فيه التجارب، لم يعد الجهل مرتبطاً بانعدام التعليم النظامي أو قلة الفرص، بل أصبح ـ في كثير من الأحيان ـ اختياراً شخصياً. فقد ولّى الزمن الذي كان فيه الوصول إلى العلم صعباً، واليوم أصبح التعلم متاحاً بضغطة زر، والفرص مفتوحة لمن يريد أن يبحث، ويجرب، ويختبر، ويكوّن خبرته بنفسه. لذلك، فإن التذرع بالجهل لم يعد مبرَّراً، وغالباً ما يصبح ذريعة يستخدمها البعض للتقصير تجاه ذاته أولاً قبل أي شيء آخر.
فالجهل هنا ليس جهلاً بالمعلومات، بل جهل بالحياة، وجهل بإمكانات النفس، وجهل بالقدرة على التطور. إنه حالة من الخمول العقلي والركون، لا علاقة لها بالشهادة أو مستوى التعليم الرسمي. بل إن بعض أكثر الناس اطلاعاً ليسوا من حملة الشهادات، وإنما ممن آمنوا بأن المعرفة تُكتسب من التجربة، ومن الاحتكاك بالناس، ومن التنقل بين الفرص، ومن القراءة والبحث والتعلم الذاتي. وهؤلاء لا يستمدون قيمتهم من ورق، بل من وعيهم ومرونتهم وقدرتهم على الاستمرار في التعلم.
أما الشهادة النظامية، فهي بطبيعة الحال تحمل قيمة كبيرة؛ فهي تعطي صاحبها عمقاً أكاديمياً، وتعلمه الانضباط والصبر، وتمنحه فرصة مخالطة أشخاص يشاركونه الاهتمامات والظروف ذاتها، كما توسع مداركه وتعمق قدرته على فهم النظريات وتحليل الأمور من زوايا متعددة. ومع ذلك، تبقى القوة الحقيقية في الشخص الذي يقرر أن يتمرد على واقعه ويعمل على نفسه، سواء درس في جامعة أم لا. هؤلاء الذين نصفهم مجازاً بـ “الذين حفروا في الصخر”، هم الأشخاص الذين شقّوا طريقهم في ظروف صعبة، دون خريطة، ودون ضمانات. اضطروا إلى التعلم من الصدّ والرفض، واستثمار كل تجربة—المؤلمة—لخلق فرصة جديدة. وغالباً ما تُصقلهم الحياة لدرجة تجعلهم أكثر صلابة وقدرة على مواجهة العقبات مقارنة بغيرهم.
وليس الهدف من هذا التحليل الانحياز لأي طرف؛ لا لحملة الشهادات ولا لمن بنوا أنفسهم بالخبرة وحدها، بل إبراز حقيقة أن الإنسان الخامل هو عدو نفسه. فالخمول جهل، والتقاعس جهل، وترك الفرص تتساقط دون التقاطها جهل أيضاً. ومع ذلك، من الضروري التنويه إلى أن الخمول ليس دائماً اختياراً واعياً، فهناك من تعترضه ظروف قهرية لا يسع السياق لتفصيلها، وقد تحول بينه وبين بذل الجهد. لذلك، لا يصح الحكم على الجميع بالمعايير نفسها، ولا يمكن تجاهل أن بعض العقبات قد تكون خارج إرادة الإنسان.
ومع هذا يبقى الثابت أن الحركة بركة، وأن السعي—لو كان بطيئاً—أفضل من الوقوف، وأن المعرفة لم تكن يوماً حكراً على فئة دون أخرى. والإنسان الواعي هو الذي يراجع ذاته، ويعيد تقييم أولوياته، ويبحث عن فرص التعلم والعمل، ويستثمر الوقت قبل أن يضيع. أما الاكتفاء بالتذمر، أو تعليق الفشل على شماعة الظروف، أو استخدام الجهل كغطاء للتقصير، فهو من أشد صور الهدر الإنساني.
إن أسوأ ما يمكن أن يفعله الإنسان لنفسه هو أن يترك عمره يتسرب بلا معنى، في حين أن كل أدوات التعلم والتطور بين يديه. فالحياة قصيرة، والوقت أسرع من أن يُهدر، والإنسان إن لم يستثمر ذاته خسر نفسه قبل أن يخسر الآخرين. ولهذا، فالأجدر به أن يغتنم وقته، ويعمل لما يسعده في دنياه وآخرته، ويترك أثراً حسناً في محيطه وبين أبنائه. فالحياة رسالة، وليست مساحة للضياع، والإنسان الساعي—لو حفر في الصخر—أقرب للنجاة ممن استسلم للخمول والجهل باختياره.

Leave a comment