يشهد عالم الأعمال اليوم تحولاً كبيراً بفعل التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهي تقنيات لم تعد مقتصرة على المهام البرمجية أو الأتمتة، بل أصبحت جزءاً أساسياً من عملية اتخاذ القرار داخل المنظمات. ورغم هذا النمو، فإن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي لا تتحقق إلا عندما يُفهم في سياقه الصحيح، خصوصاً عند ربطه بالفطنة التجارية، وهي القدرة البشرية على قراءة الصورة الكبيرة وفهم السوق والتكاليف والمخاطر والعوامل غير الكمية التي لا تظهر في البيانات الرقمية. لكن هذا الربط ليس إلزامياً في كل الحالات، بل يعتمد على نوع القرار وطبيعته ومدى احتياجه للحدس والخبرة والاستبصار.

الذكاء الاصطناعي وفق دراسة “What AI Is and What Can AI Do for Your Business” المنشورة على ResearchGate عام 2023، هو منظومة تقنية تشمل التعلم الآلي وتحليل البيانات الضخمة ومعالجة اللغة الطبيعية وخوارزميات التنبؤ. وتستخدم الشركات هذه التقنيات لتحسين التشغيل ودعم اتخاذ القرار وتقليل الأخطاء. وفي المقابل، تعرّف Harvard Business Review العربية الفطنة التجارية بأنها قدرة الفرد على فهم طريقة عمل المنظمة الربحية: كيف تحقق الدخل؟ ما الذي يحرك القيمة؟ كيف ترتبط القرارات التشغيلية بالنتائج المالية؟ وما هي العوامل التي يجب مراعاتها عند قراءة السوق وتحديد المخاطر؟

لكن من المهم التمييز بين الفطنة التجارية والفطنة الإدارية؛ فالأخيرة ترتبط بالمنظمات غير الربحية والقطاع الحكومي، لأن هدفها ليس الربح وإنما الكفاءة والخدمة العامة والاستدامة التشغيلية. ومع ذلك، فإن التوجهات الحديثة – وخاصة في السعودية ضمن إطار رؤية 2030 – جعلت كثيراً من القطاعات الحكومية وغير الربحية بحاجة فعلية إلى الفطنة التجارية أيضاً، لأنها تساعدها على تنويع مصادر التمويل وتحسين كفاءة الإنفاق ورفع جودة الخدمات. وبهذا أصبحت الحدود بين الفطنة التجارية والفطنة الإدارية أقل صلابة مما كانت عليه سابقاً.

في بعض المهام، يكون الذكاء الاصطناعي وحده كافياً دون الحاجة إلى قدر كبير من الفطنة البشرية. فعلى سبيل المثال، تعتمد المواقع الإلكترونية على الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستخدمين والتنبؤ بأنماط الشراء دون تدخل بشري كبير، كما يمكن خوارزميات التعلّم العميق مراقبة أداء الأنظمة واكتشاف الأعطال أو الاحتيال بطريقة آلية. ووفق Harvard Business School Online في مقال “Benefits of AI in Business” (2024)، فإن هذه العمليات تعتمد بشكل أساسي على البيانات ولا تتطلب تفسيراً بشرياً معقداً.

على الجانب الآخر، تؤكد دراسة “The Irreplaceable Value of Human Decision Making in the Age of AI” المنشورة في Harvard Business Review عام 2024 أن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع تفسير السياق الكامل للقرار. فهناك قرارات تتطلب فهماً ثقافياً، اقتصادياً، تنظيمياً أو حتى نفسياً، وهذا ما لا تستطيع الآلة قياسه بدقة. فعلى سبيل المثال، يستطيع الذكاء الاصطناعي التنبؤي بناء توقعات مستقبلية بناءً على البيانات التاريخية، لكن هذه التوقعات – مهما بلغت دقتها – تبقى مجرد أرقام ومدخلات في عملية اتخاذ القرار. وهنا تأتي الفطنة التجارية أو الإدارية التي تمنح تلك التنبؤات معناها العملي، إذ بينما يحلل الذكاء الاصطناعي ما هو موجود، تقرأ الفطنة البشرية ما قد يحدث، وتحدد إن كانت هذه التنبؤات قابلة للتحقق أو تحتاج إلى تعديل أو إعادة توجيه. وحتى في وجود الذكاء الاصطناعي التنبؤي، تظل الأرقام مجرد مدخلات لاتخاذ القرار، بينما يظل الإنسان مسؤولاً عن وضعها في سياقها الصحيح.

ويظهر هذا الفارق بوضوح في سوق الأسهم، حيث تُستخدم أنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل ملايين البيانات وتحديد اتجاهات السوق، لكن الأحداث الجيوسياسية، والقرارات الحكومية، وتغيّر نفسية المستثمرين كثيراً ما تفاجئ تلك الخوارزميات لأنها لا تعتمد على بيانات فقط، بل على سياق واسع لا يمكن للآلة إدراكه. وتوضح Harvard Business School في دراسة “Artificial Intelligence and Human Judgment Drives Innovation” أن أفضل النتائج في المؤسسات المالية تأتي عندما يعمل الذكاء الاصطناعي جنباً إلى جنب مع الخبرة البشرية، وليس بديلاً عنها.

أما في مجال التجارة الإلكترونية، فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل بيانات الزوار وسلوك الشراء وتوقع المنتجات التي ستحقق أداءً جيداً، لكن قراراً مثل توسع الشركة لافتتاح مركز لوجستي جديد لا يعتمد على التوقع الرقمي فقط، بل على فهم التكاليف، المنافسة، الجغرافيا، الأنظمة المحلية وطبيعة الطلب، وهي جميعها مكونات فطنة تجارية لا غنى عنها.

وفي السياق السعودي، تُعد رؤية 2030 مثالاً ناجحاً على الدمج بين الذكاء الاصطناعي والفطنة الإدارية والتجارية. فجهات مثل هيئة الحكومة الرقمية (DGA) تستخدم الذكاء الاصطناعي لرفع جودة الخدمات الحكومية وتحليل احتياجات المستفيدين، لكن قراراتها الاستراتيجية تستند إلى تحليل اقتصادي وإداري عميق. وفي وزارة العدل، أثبتت منصة ناجز أن الأتمتة يمكن أن ترفع جودة الخدمات بشكل هائل، بينما تظل القرارات القانونية والتنظيمية بحاجة إلى تقدير بشري. أما صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، فقد أصبح مثالاً عالمياً على استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل الأسواق، مع فطنة تجارية عالية لصنع قرارات استثمارية كبرى، وهي ممارسات دفعت الصندوق ليكون من أسرع الصناديق نمواً عالمياً.

إن مستقبل العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والفطنة التجارية سيشهد تطوراً متسارعاً، خصوصاً مع انتشار نماذج التشغيل الهجينة (Hybrid Models) التي تعتمد على التحليل الرقمي مع الحوكمة الإنسانية. وتشير دراسة Harvard Business Publishing “Climbing the High Summits” (2024) إلى أن القائد الناجح في عصر الذكاء الاصطناعي هو من يمتلك مهارات إنسانية عالية، ويعرف كيف يفسّر البيانات، ويقود الابتكار، ويوجه التقنية نحو أهداف واقعية.

وفي النهاية، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يوفر الصرامة الرقمية، بينما توفر الفطنة التجارية البصيرة الاستراتيجية. لا يتعارضان، بل يكملان بعضهما البعض. وعندما تعمل المنظمة على دمج قوة التقنية مع حكمة الإنسان، فإنها تبني قرارات أكثر نضجاً، وتحقق استدامة أعلى، وتصبح أكثر قدرة على المنافسة في عالم سريع التغير.

=====

قائمة المصادر

١. تعريف الذكاء الاصطناعي ودوره في الأعمال

٢. فوائد الذكاء الاصطناعي في بيئة الأعمال

٣. تعريف الفطنة التجارية (Business Acumen)

٤. قيمة القرار البشري في عصر الذكاء الاصطناعي

٥. دور الذكاء الاصطناعي والحكم البشري في الابتكار

٦. مهارات القائد في عصر الذكاء الاصطناعي

٧. أمثلة حول الفطنة الإدارية والذكاء الاصطناعي في السعودية

مقالات وتحليلات عامة، منها: – التحول الرقمي في السعودية – البرامج التنفيذية لرؤية 2030 – تقارير هيئات حكومية مثل هيئة الحكومة الرقمية ووزارة العدل وصندوق الاستثمارات العامة (هذه تقارير رسمية بدون مصادر أكاديمية محددة ،مفتوحة للاستخدام الإعلامي)