لا يمكن إنكار أن بيئات العمل تختلف في مستوى نضجها الإداري، وبعض الإدارات قد تنحرف عن الأسس المهنية وتستخدم أساليب غير صحية في إدارة الموارد البشرية. ومن أبرز تلك الأساليب ما يُعرف بـ الإدارة بالاسترضاء، وهي ظاهرة تظهر في بعض المنظمات عندما تتحول المناصب والقرارات إلى وسائل تهدئة ومجاملة، بدلاً من أن تكون أدوات تنظيم وتوجيه وتحقيق أهداف حقيقية.
هذه الممارسة لا تعطل الكفاءة فحسب، بل تخلق بيئة غير مستقرة، وتفتح الباب للشللية، والتجهيل بالحقوق، والاستغلال الوظيفي.
أولاً: ما هي الإدارة بالاسترضاء؟
يُقصد بالإدارة بالاسترضاء:
أسلوب إداري تُتخذ فيه القرارات المتعلقة بالتعيين أو الترقية أو منح الصلاحيات بهدف إرضاء أفراد معيّنين أو ضمان ولائهم، بدلاً من الاعتماد على مبادئ الكفاءة والجدارة.
ويمكن توصيفها بأنها:
ممارسة تمنح فيها المناصب والامتيازات كتطمينات شخصية، لا كمسؤوليات مهنية تستند إلى مهارات وخبرات مثبتة
هذا النوع من الإدارة يناقض المبادئ الإدارية الأساسية مثل:
1. الجدارة (Meritocracy)
2. العدالة الوظيفية
3. الشفافية
4. الحوكمة الإدارية
5. تكافؤ الفرص
ثانياً: مظاهر الإدارة بالاسترضاء في بعض الإدارات
تظهر هذه الممارسة بعدة صور، منها:
تعيين أو ترقية موظفين لا يمتلكون المؤهل أو الخبرة الكافية.
منح الامتيازات بناءً على العلاقات الشخصية وليس الأداء.
تحميل الموظفين المجتهدين أعباءً ليست من اختصاصهم.
إحاطة الإدارة نفسها بمجموعة مغلقة تؤثر على القرارات (الشللية).
استبعاد الكفاءات من دوائر القرار وحصرها في الأعمال الروتينية.
تمييع إجراءات الشكاوى أو حجبها لحماية أطراف معينة داخل المنظمة.
ثالثاً: من آثار الإدارة بالاسترضاء: الشللية والتجهيل المتعمد بالحقوق
من أخطر الآثار التي تظهر في بعض الإدارات المتأثرة بالاسترضاء هو انتشار الشللية، حيث يُمنح الامتياز أو المنصب أو المعلومة بحسب القرب من مجموعة معينة، لا بحسب الدور الوظيفي. ومع الوقت تتحول هذه الشللية إلى نظام غير معلن يُدير القرارات ويحدد فرص التقدم، ويخلق فجوة واضحة بين ما تنص عليه اللوائح وما يجري فعلياً على أرض الواقع.
يواكب ذلك تجهيلٌ متعمدٌ بحقوق الموظفين، خصوصاً الجدد منهم. إذ يجد الموظف الجديد نفسه يدخل بيئة لا يعرف فيها:
ما هو التنظيم الإداري الداخلي للمنظمة؟
ما هي اللائحة التنفيذية للموارد البشرية؟
ما هي حقوقه وواجباته الرسمية؟
كيف تتم الإجراءات النظامية بالشكل الصحيح؟
ما هي قنوات الاعتراض والتظلم؟
أو،
كيف يحمي نفسه مهنياً عند حدوث خلاف؟
:ويتحول هذا الجهل المتراكم إلى بيئة تعتمد على
تنفيذ الأوامر بسذاجة دون فهم خلفيتها
عمل روتيني مكرر بلا هدف واضح
غياب ثقافة التطوير
الخوف من السؤال
وانتشار القرارات الشفهية بدل النظامية
ولا يتوقف الأمر عند ذلك؛ فالخريجون الجدد تحديداً يدخلون سوق العمل بحماس كبير، ويظنون أن النجاح في المنظمة يشبه النجاح في الجامعة: “اجتهدوستُقدَّر”. لكن في بعض الإدارات غير الكفؤة يُنظر لهذا الموظف المتحمس على أنه مورد قابل للاستغلال، لا على أنه موهبة يجب استثمارها.
وبدلاً من مكافأة اجتهاده، يتم تحميله أكثر من طاقته لأنه “لا يشتكي”، بينما يتم تجنب تكليف الموظف غير الملتزم “حتى لا تحدث مشاكل”.
ثم تأتي الإشكالية الأخطر:
يتم إقناع الموظف بأن المدير المباشر هو المرجع لكل شكوى، وأن أي اعتراض يجب أن يمر عبره. فإذا كان المدير نفسه هو سبب المشكلة، يصبح الموظف في وضع شبيه بـ:
القاضي هو الجلاد.
وفي حالات أسوأ، قد يرفع الموظف شكواه عبر القنوات الرسمية، لكن يتم إخفاء الخطاب أو تعطيله داخل إدارة الاتصالات الإدارية أو الموارد البشرية، بسبب وجود مصالح متبادلة بين بعض الإدارات، حيث حيث كل مدير يحمي الآخر، بينما يبقى الموظف هو الضحية الوحيدة.
بيئة كهذه تُنتج في النهاية:
١/ غياب المساءلة
٢/ انهيار الثقة
٣/ استنزاف الكفاءات
٤/ ارتفاع معدلات الاحتراق الوظيفي
٥/ وتعطّل مخرجات المنظمة
رابعاً: الأثر الإداري والقانوني لهذه الممارسات
1. مخالفة مبدأ تكافؤ الفرص
العديد من الأنظمة تنص على وجوب أن تكون الترقية والتعيين مبنية على الكفاءة، وأي تجاوز لذلك يعد إساءة استخدام سلطة.
2. ضعف الحوكمة
الإدارة بالاسترضاء تتعارض مع معايير الحوكمة والشفافية، ما يعرّض المنظمة لمخاطر تشغيلية ومهنية.
3. ضياع الحقوق
تجاهل الشكاوى أو تعطيلها يُعد مخالفة صريحة للأنظمة الإدارية التي تلزم الجهات بتوثيق ومعالجة البلاغات.
4. أثر اقتصادي مباشر
سوء التعيين يؤدي إلى القرارات الخاطئة، وبالتبعية إلى خسائر تشغيلية وإدارية.
خاتمة
الإدارة بالاسترضاء ليست مجرد خلل بسيط، بل ممارسة خطيرة يمكن أن تُضعف المنظمة من الداخل، وتُهدر طاقات موظفيها، وتخلق بيئة مليئة بالشللية والتجهيل والاستغلال. وما لم تتم محاربة هذه الظواهر بالشفافية، وإرساء مبدأ “الشخص المناسب في المكان المناسب”، فإن المخرجات ستظل متعثرة مهما كانت الموارد متوفرة.
إن الوعي بهذه الممارسات هو الخطوة الأولى لحماية الموظف، وحماية المنظمة، وضمان .بيئة عمل أكثر عدلاً وكفاءة.

Leave a comment